نأتي بعد ذلك إلى إمامين جليلين معروفين في الأمة، وهما: الإمام أبو زرعة الرازي والإمام أبو حاتم الرازي ، ولا تخفى مكانتهما وإمامتهما في الحديث وعلم الرجال، فقد نقل اعتقادهما الإمام عبد الرحمن بن أبي حاتم ، فقال: (سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين، وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار، وما يعتقدان من ذلك؟) فهذا إمام ابن إمام يقول: سألت أبي وسألت زميله ونظيره فقلت لهما: ماذا يعتقد أهل السنة والجماعة في أصول الدين؟ وما الذي أدركتما عليه العلماء في هذه المسائل حين اختلف الناس وهاجوا وماجوا في ذلك في جميع الأمصار؟ وماذا تعتقدان؟
وهذا قريب من كلام البخاري أيضاً في مسألة إجماع علماء الأمصار.
قال: (فقالا: أدركنا العلماء في جميع الأمصار حجازاً وعراقاً وشاماً ويمناً فكان من مذهبهم: الإيمان قولٌ وعملٌ، يزيد وينقص).
فهذان إجماعان محكيان، الأول نقله البخاري ، والثاني نقله الإمامان: أبو زرعة الرازي و أبو حاتم الرازي .
ومما حكاه عنهما في ذلك قولهما: (وأهل الكبائر في مشيئة الله عز وجل).
فهما ذكرا مضمون الآية: (( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ))[النساء:48] وأما البخاري ففصَّل، فقال: (لا يكفرون).
وقالا: (ولا نكفر أهل القبلة بذنوبهم، ونكل أسرارهم إلى الله عز وجل).
وقالا: (والناس مؤمنون في أحكامهم ومواريثهم، ولا ندري ما هم عند الله عز وجل).
ومستند هذا الإجماع قوله صلى الله عليه وسلم: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله ).
فالسرائر والبواطن يتولاها الله، فلا نتهمهم بالنفاق ولا بالبدعة، ولا بالشرك ولا بالضلال؛ لأنا لا نطلع على السرائر، ومن أظهر شيئاً أخذ بحق الإسلام، ومن لم يظهر فسرائر الناس إلى الله عز وجل.
وقولهما: (والناس) المقصود به أهل القبلة؛ لأن العلماء يعنون بذلك دائماً أهل القبلة، وليس الناس كلهم مع اليهود والنصارى، وليس المراد أيضاً كل من قال: إنني مسلم، بل الكلام في أهل القبلة، فأهل القبلة مؤمنون في أحكامهم ومواريثهم، كما جاء في الحديث: ( من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، فهو المسلم له ما لنا، وعليه ما علينا ).
فالإسلام أحكام ظاهرة جلية، حتى لا تضطرب الأمة وتهيج وتموج وتختلف، فمن فعل ذلك فهو على هذا الأمر، فنحن نعتقد أن أهل القبلة الذين يقرون بشرائع الإسلام الظاهرة ويلتزمون بها مؤمنون ظاهراً، وليس هو الإيمان المذكور في حديث جبريل ، بل الإيمان المذكور في حديث وفد عبد القيس الذي فيه: ( أتدرون ما الإيمان؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة )، وأما الذي في حديث جبريل فهو مرتبة عليا، ونحن لا نثبت للعامة ولأهل القبلة أنهم في مرتبة دون مرتبة، إنما نريد أن نثبت لهم أنهم مسلمون، فلو قارنا هذا الحديث بحديث جبريل فهو يعني الإسلام، فكون الناس مؤمنين يعني أنهم مسلمون وليسوا كافرين في أحكامهم ومواريثهم، فنصحح عقودهم، وأنكحتهم، وأكل ذبائحهم، والصلاة خلفهم، والصلاة عليهم، ونورثهم، ما لم يظهروا الشرك أو الكفر أو البدعة.
قالا: (ولا ندري ما هم عند الله عز وجل)، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعامل أهل الصلاة هكذا، ولا شك في أنه كان فيهم منافقون قطعاً، منهم من يعلمهم، ومنهم من يعلمهم الله ولا يعلمهم صلى الله عليه وسلم، لكن إجراء الأحكام يكون على الأمور الظاهرة، وليس بتأويلات خفية ولا بتوجسات ولا توقعات، فهذه الأمور ما كان النبي صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة يتعاملون بها، بل لهم الظاهر، ولذا جاء المتخلفون يحلفون للنبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا معذورين، وأنهم ما تخلفوا إلا من أجل كذا وكذا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقبل أعذارهم، وهو يعلم بإعلام الله تعالى له أنهم كاذبون.
وهذه قاعدة عظيمة من قواعد التعامل، ولا يعني ذلك أنك تزكي المرء وتواليه وتحبه وتناصره وأنت تعلم نفاقه، ولكن إذ أمسكت عليه أمراً فأقسم لك الأيمان على أنه ما أراد إلا الخير؛ فكله إلى ربه وانصحه وعظه، (( وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا ))[النساء:63] كما أمر الله.
وهذا تعامل عظيم مع المنافقين، ومع ذلك كان منهم من هو من أهل الدرك الأسفل في النار، حتى إنه كان منهم من نهى الله تبارك وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يصلي عليه، فقال: (( وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ ))[التوبة:84]، فوصل الأمر إلى حد أن الأحكام الظاهرة لا تعطى لهم، لكن الأصل في أهل القبلة أن يعطوا الأحكام الظاهرة.
وقال الإمامان: (فمن قال إنه مؤمن حقاً فهو مبتدع).
فإنه لا أحد من الصحابة قال: أنا مؤمن حقاً، مع أنهم كانوا رضي الله تعالى عنهم هم المؤمنون حقاً بلا ريب، ولا يمكن يأتي جيل مؤمن حقاً أليق بهذا الوصف من الصحابة، ومع ذلك ما قالوها، وقد كانوا يخافون، كما قال ابن أبي مليكة -فيما أخرجه البخاري رحمه الله في كتاب الإيمان-: (أدركت أكثر من ثلاثين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كلهم يخاف النفاق على نفسه، ما منهم أحد يقول: إنه علي إيمان جبريل وميكائيل ويتجرأ من بعدهم على هذه الدعوى!
قالا: (ومن قال: هو مؤمن عند الله فهو من الكاذبين)؛ لأنه لا يعلم، ومن قال أي قول بغير علم فقد كذب، فإن كنت مؤمناً صادقاً عند الله تعتقد ذلك؛ فإنك لا تدري ما نهايتك وما مصيرك وما مآلك، وإن كنت غير ذلك فالكذب واضح.
قالا: (ومن قال: هو مؤمن بالله حقاً فهو مصيب).
فالحق أن نقول: نحن مؤمنون بالله حقاً، فإن قيل: ما الفرق بين أن يقول الشخص: أنا مؤمن حقاً، وأن يقول: أنا مؤمنٌ بالله حقاً؟ فالجواب أن الجملة الأولى تزكية، والله تعالى قال: (( فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ))[النجم:32]، وقال تعالى: (( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ ))[النساء:49]، لكن الجملة الأخرى (أنا مؤمن بالله حقاً) اعترافٌ وإقرار والتزام من العبد بأنه لا يشك في إيمانه، ويجب على الإنسان أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله حقاً، لا مجرد رأي أو احتمال أو ترجيح، فلو قالها مجرد ترجيح لكان شاكاً، والشاك يكون كافراً، ولا يكون مؤمناً، فالواجب أن يشهد حقاً.
قالا: (والمرجئة المبتدعة ضلال) وصفاهم بأنهم مبتدعة ضلال؛ لأنهم يقولون: إن الدين قولٌ بلا عمل.
قالا: (وعلامة المرجئة تسميتهم أهل السنة مخالفةً ونقصانية)، أي: يسمون أهل السنة المخالفين، فيقولون: قال أهل الحق، وقال أهل الاتباع، وأحياناً يقولون: قال أهل السنة ، يقصدون أنفسهم، ثم يقولون: وقال المخالف! يقصدون به أهل السنة .
فقالا: إذا رأيت أحداً يقول هذا فاعلم أنه هو المرجئ الذي يتهم أهل السنة بأنهم ليسوا أهل السنة.
وأما تسميتهم أهل السنة بالنقصانية فلأنهم يقولون: الإيمان ينقص، وهم يقولون: لا ينقص، فمن عرف الله وصدق بقلبه لا ينقص إيمانه، فالإيمان قد يزول، ولكن كيف ينقص؟! هذا رأيهم وعقيدتهم.
ويقول المرجئة : إذا سمعت أحداً يقول: إن الإيمان ينقص فاعلم أنه مبتدع! هكذا يقول المرجئة .
فالإمامان يقولان: إذا رأيت أحداً يقول ذلك ويلمز ويطعن في أهل السنة بذلك فاعلم أنه مرجئ.